أهمية التمييز بين الخبير والمستشار في المشاريع السعودية

المؤلف: عبد الرحمن الشقير11.03.2025
أهمية التمييز بين الخبير والمستشار في المشاريع السعودية

تضطلع مراكز البحوث العالمية والمحلية بدور حيوي في إجراء دراسات ثقافية واجتماعية واقتصادية معمقة، بالإضافة إلى المسوحات التراثية والمشاريع التاريخية التي تسلط الضوء على المجتمع السعودي بشكل مستمر ومكثف. هذه الجهود البحثية الدؤوبة تسهم في فهم أعمق للتطورات التي يشهدها المجتمع. ومع ذلك، يُلاحظ أن المنهجية المتبعة في طرح هذه الدراسات، والتي غالبًا ما تطلبها الجهات من المراكز العالمية والشركات الاستشارية، تتسم بسمتين رئيسيتين. الأولى، هي التركيز على المشاريع العلمية الصغيرة والمتوسطة مع غياب ملحوظ للمشاريع الضخمة والطموحة، مثل الموسوعات الشاملة وقواعد البيانات التراثية الواسعة، وتأسيس مراكز دراسات قوية ومستدامة. أما السمة الثانية، فهي إهمال دور المستشار المتخصص الذي يتولى مهمة تحديد الأهداف بدقة، وفحص الخطط المنهجية بعناية، والموافقة على استلام المشاريع بعد التأكد من جودتها وملاءمتها. إن هذا النهج الثقافي قد يؤدي إلى تسريع وتيرة إنجاز الدراسات الكمية، ولكنه غالبًا ما يأتي على حساب العمق والجودة، مما يقلل من فرص الاستفادة منها على الوجه الأمثل وتحقيق الاستدامة المنشودة. فالدراسات التي تفتقر إلى العمق والتحليل المتأني قد لا تقدم رؤى قيمة أو حلول عملية للتحديات التي تواجه المجتمع. تتأكد أهمية وجود المستشار المتخصص في ظل تعقيدات الأسواق التنموية والثقافية المتزايدة في السنوات الأخيرة من الناحية القانونية والفنية والثقافية. فالتعامل مع هذه التعقيدات يتطلب منهجيات متخصصة قد يصعب على الشخص العادي، أو حتى المسؤول الإداري المجتهد، الإلمام بها. ليس من واجبات المسؤول الإداري أن يكون ملمًا بكل التفاصيل، بل الأهم هو أن يعرف الجهات المتخصصة التي يمكنه الاستعانة بها للحصول على المشورة وتحقيق أهدافه وتنفيذ مشاريعه بكفاءة. الشعور بضرورة التمييز بين دور المستشار والاستشاري نابع من ملاحظات شخصية، وذلك لكثرة ما تم رصده من خسائر مالية وجهود ضائعة ووقت مهدر لدى بعض المؤسسات. يعود ذلك إلى اعتقاد خاطئ لدى بعض المسؤولين بأن الاستعانة بالاستشاري العالمي يغني تلقائيًا عن دور المستشار المتخصص، وهذا وهم إداري شائع يجب تجنبه. في إحدى التجارب السابقة، كلفت إحدى الوزارات شركة عالمية متخصصة في الدراسات بإجراء تقييم شامل لأوضاع الخدمات الصحية في الأحياء. أنجزت الشركة دراسة واسعة النطاق، ولكنها كانت دراسة عامة ذات نتائج نظرية، واقتصرت توصياتها على دراسة مشكلة محددة بشكل أكثر تفصيلًا. لو تم عرض هذه الدراسة على مستشار متخصص في المجال الصحي، لكان قد انتبه إلى المشكلة المحددة منذ البداية، ولكانت هي محور عمل الاستشاري. فالمشكلة ظلت قائمة حتى بعد انتهاء عمل الشركة، وكأن دورها اقتصر على التأكيد على وجودها. وقد صرح أحد الباحثين ضمن فريق الاستشاري في الدراسة قائلًا: "لو أخبرنا الوزارة بما ينبغي عليهم فعله قبل ترسية المشروع علينا، لخسرنا ملايين. هذا عمل مستشارهم، وليس عملنا." في عام 2017، تواصلت وزارة الاقتصاد مع مجموعة من علماء الاجتماع السعوديين لعقد اجتماع موسع مع شركة أمريكية متخصصة في الدراسات الاجتماعية والاقتصادية. تبع ذلك ورشة عمل كبرى بعد ثلاثة أشهر، ولاحظنا كيف انعكست رؤانا حول ثقافة المجتمع السعودي على منهجية الدراسة وخطتها. اقترحنا على الوزارة التعاقد معنا كمستشارين للمشروع لضبط المنهجية وخفض التكاليف، خاصة وأن ما قيل في الورشة لم يتجاوز ما ناقشناه في الاجتماع. ومع ذلك، لم تقتنع الوزارة بالمقترح، ولا نعرف ما آلت إليه الأمور لاحقًا. هذه التجربة تمثل ظاهرة متكررة في العديد من الوزارات. وقد تعرض الدكتور محمد القنيبط لموقف مماثل مع وزارة المياه المتعاقدة مع شركة بوز آلن هاملتون الاستشارية، حيث استغلت الشركة معلوماته وخبراته وخبرات زملائه مقابل مشاركتهم في ورشة عمل. وقد كتب عن ذلك مقالًا بعنوان "استشاريو الكابتشينو" في صحيفة عكاظ في يناير 2017. في كثير من الأحيان، يقدم الاستشاري مخرجات تتجاوز احتياجات المؤسسة، وقد يصل إلى بيانات حساسة وسرية دون داع. وقد يقدم دراسة استشارية تتضمن نتائج لا تعكس الأهداف المرجوة ولا تتضمن حلولًا عملية أو توصيات قابلة للتطبيق على أرض الواقع. هذا يمثل هدرًا صامتًا للكفاءات والأموال، ولكنه هدر لا يعاقب عليه القانون ولا يعتبر مخالفة إدارية. إذًا، المستشار هو شركة أو شخص متخصص في مجال معين يمتلك القدرة على تحديد أهداف الدراسات والمشاريع الثقافية والاجتماعية الكبيرة بدقة. بإمكانه تقديم النصح والتوجيه للجهات التي يعمل معها لتحديد احتياجاتها بدقة، مما يوفر الوقت والجهد والمال، ويرفع كفاءة العمل بشكل عام. أما الاستشاري، فهو شركة منفذة، وفي العلوم الاجتماعية غالبًا ما تكون شركة دراسات متخصصة، تتولى إعداد الدراسات والموسوعات والمشاريع التراثية والثقافية. إذا أدرك الاستشاري العالمي غياب المستشارين المتمكنين في المؤسسات، والقادرين على ضبط الأهداف ومراقبة منهجيات التنفيذ، فإنه غالبًا ما سيعتمد على فريق عمل محلي أو عربي بأقل تكلفة ممكنة. بالنظر إلى المؤسسات السعودية، نجد ثلاثة أنماط من التعامل: - جهات تدرك الفرق بين المفهومين وتجعلهما جزءًا من ثقافة العمل وهوية الجهة. في هذه الحالة، يتولى المستشار، بالتنسيق مع الجهة المعنية، تحديد الهدف والمشكلة وإطارها الزماني والمكاني والبشري، ويستلم المخرجات بعد التأكد من مطابقتها للمواصفات. - جهات تؤمن بالاستشاري العالمي الذي ينفذ الدراسات، معتقدة بأنه سيتولى مهمة تحديد الأهداف وما يتبعها. هذه الجهات لا تولي اهتمامًا كبيرًا للمستشار الذي يضبط المنهجيات ويتأكد من صحة المخرجات، مما يخلق فجوة منهجية كبيرة بين الدراسة المعدة وما تحتاجه الجهة فعليًا. - جهات تعتمد على مستشارين في تنفيذ أعمال ومشاريع كبرى تحتاج إلى استشاري، ينفذ وفق معايير المنظمات الدولية. وقد لوحظ تداخل كبير بين مهام المفهومين. فكلما غاب دور المستشار، يتحول الاستشاري إلى موظف يؤدي مهام اعتيادية، وتتعطل الاستفادة من خبرات الجميع. تكمن المشكلة في: - غياب ثقافة الاستعانة بالمستشار ومراكز الدراسات الاستشارية لفهم الواقع وتغيراته بمهنية عالية، مع شعور المسؤولين بضرورتها. هذه مشكلة إدارية صامتة. - غياب ثقافة الاستعانة بالمستشار ومراكز الدراسات مع فقدان الشعور بوجود المشكلة من الأساس. هذه أهم أزمة إدارية وقيادية. وكلا هذين المستويين لا يتلاءم مع بيئات العمل الحديثة التي تواكب المعايير الدولية وتراعي المتغيرات المحلية. في المقابل، اتسمت العديد من إنجازات القادة بالنضج القيادي، وذلك لحسن مراعاتهم لثقافة المجتمع والتواصل الإنساني الفعال أثناء التخطيط. وقد منحوا مزيدًا من الاهتمام للاستشارات الاجتماعية والنفسية والأنثروبولوجية لفهم روح المجتمع بعد عقود من التركيز على التطبيق الحرفي للأنظمة. توجد أهمية أدبية وثقافية في انعكاس خبرات القادة على كتابة سيرهم الذاتية، من حيث اكتشاف أرشيف تاريخ إداري كبير بعد إعادة تقييمه بمعايير جديدة. فالعديد من القيادات السعودية تحقق إنجازات كبيرة بالاستعانة بالمستشارين والاستشاريين، ولكن لم يتنبه أحد في الغالب إلى أن هذا يعتبر سلوكًا قياديًا عظيمًا، مما فوّت على القادة فرصة تحليل الخبرات العميقة. فالإنجاز العظيم قد يتحول إلى ممارسة اعتيادية لدى القادة، مما يفقدون الشعور بأهميته. دور كاتب السير الذاتية والمؤرخ الإداري هو أن يتمتع بعين ناقدة وروح فاحصة وذائقة تلتقط الجمال من بين الممارسات الاعتيادية. كاتب السير الذاتية للقادة هو من يدرك ما لا ينتبهون إليه، ويلتقط أجمل ما في القائد. فالقائد بالفطرة قد لا يدرك مكامن إبداعه ويرى الأمور من حوله اعتيادية. لا يوجد أجمل من إبراز القادة الذين يعون بأدوارهم ويحققون إنجازات مسكوت عنها أو ضاعت بسبب انخفاض معايير التقييم، وتفويت فرص نقل الخبرات العميقة للأجيال القادمة. نظرًا لأن رؤية 2030 تتقاطع بشكل كبير مع معايير المنظمات الدولية المعنية بالتنمية والتراث المادي وغير المادي والبيئة الحية وغير الحية، فإن روح تقارير المنظمات تثمن كثيرًا الجهات التي تحقق إنجازاتها بالاستعانة بمستشارين في العلوم الاجتماعية ومراكز دراسات محايدة. غالبًا ما يكون غياب مستشاري العلوم الاجتماعية محل ملاحظة المنظمات الدولية عند تقييم المشروعات. من هنا، يجدر بالقائد والمسؤول أن يراعي الفرق بين المستشار والاستشاري، وأن يكلف كل واحد منهما بالمهمة الملائمة له، والتي تحقق أهداف جهته على أكمل وجه. بذلك يضمن كفاءة الإنفاق وفعالية المخرجات.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة